قصص قصيرة : الفستان الأبيض

قصص قصيرة
قصص قصيرة : الفستان الأبيض
ثم تشخص عينيه إلى السماء معلنةً أن لحظات الوداع قريبة وأن إرادة الله في خلقه أقوى من كل ما وصل إليه علوم البشر من تقدم وكبرياء ! ...تخيلوا أن وصولهم للفضاء وترويضهم لأشرس الكائنات وأضخمها ستمنع إرادة الله من أن تنفذ على هيئة كائنات لا تُرى بالعين المجردة إلى ذلك الجسد القوى فتحيله إلى صندوقٍ يتفشى فيه الصدأ يوماً بعد يوم ..ولتثبت أن للكون خالقاً يخلق ما يضر وما ينفع وأن كائناً من كان لا يقدر على تحويل إحداهما للآخر إلا بإرادته وأمره

حياتها كانت أملاً لكثير ممن لم يحظوا بحنان الأب واحتواء الأم ودفء الأسرة وحميميتها ..لم تكن لتحلم بأكثر من ذلك وأكثر من ذلك ما كان ليكون ..وبرغم أن الأب والأم قد أرسوا كل ما تعلموه من قواعد التربية السليمة البنَاءة وإستخدام النقاش سلاحاً فتاكاً لكل المشاكل وانجرافات الحياة ألا أن حبهم الغير محدود لها قد رسٌب بها أن العالم يحده فقط جدران ذلك المنزل الملئ بالمشاعر الدافئة والمبادئ النقية ..لم تكن لتواجه شيئاً إلا من وراء تلك الجدران ممسكةً بحكمة أبيها وخوفه عليها ...

وتتوالى الأيام وتكبر ويكبر معها إحساسٌ بخلود ذلك الحال مع أن تعاريف الموت تتنوع وتختلف بزيادة سنواتها في الحياة

في صغرها كان الموت فقط عندما يمتلئ الوجه بتجاعيده وينحني الظهر وتنكسر العينان إلى خالقها إعترافاً بما أعطاها من عمرٍ مديد وأبناء يكملون ما أُرسى قواعده ...وقتها فقط يكون الموت مشروعا

ولكن ذهاب أصدقائها ممن تعلمت معهم أبجديات الطفولة وحماقات المراهقة أسقط تلك الشرعية واضعاً دستوراً جديداً يبيح للموت بالدخول إلى أى كائنٍ من كان ليهز حياة من حوله ويترك لمن يتأملون عظة تذهب بالعودة إلى تفاهات الحياة وملذاتها..يبيح امتلاك كل الأرواح لكن فقط خارج تلك الجدران !

الشيطان بكل ألاعيبه يصنع تلك الأكذوبة ويلونها لتعيش حياتها هادئة غير بالية بكل حوادث الطائراات والقطارات و زلازلال العقارات..فكل ذلك بعيداً عنها تسمعه فقط فى نشرات الأخبار وتقطب جبينها لحظات ثم تنصرف لتكمل حياتها البعيدة عن نطاق الموت

وهل تترك الدنيا حالاً فى دوام ! ..وهل يترك القدر صوتاً يعلو على صوته ! ..

تقف فى سكون تتذكر كل لقطات الأفلام التى وقف بها الطبيب ينهى حياة مريضه أمام أقاربه بعدة معلومات أتى بها العلم لتكشف حقيقة ستظل تنخر فى هدوء تلك الأسرة واستقرارها طوال الشهور القليلة الباقية فى حياة المريض

دموعها لم تخرج وتحمل بخروجها بعضاً من الأسى الذى ملأها فقد شاءت يومها أن تجعل ما بقى من أيام أبيها أسعدها على الإطلاق وقد كان قرار الكتمان عنه أكثر الخيارات حكمة بل هو وحده القرار الحكيم فمن منا يتحمل أن يحيا ليشاهد قضائه ينتشر بداخله ثم فى لحظة من اللحظات يرتجف أحد أعضاءه معلناً عدم قدرته على التحمل آمراً باقى الأعضاء بالسكون !!! ....

وينتشر ذلك الداء الخبيث أمامها فى جسد أبيها يوما بعد يوم ..وكأنها تراه أمامها كائناً حياً كلما زاد حجمه نقصت تلك الساعات الباقية فى حياة أبيها ..تراه يجرى جارفاً كل معالم الحياة داخل ذلك الجسد وجارفاً كل مشاعر السعادة من هذا البيت

هل تخيلت يوماً وهى بأحضان أبيها أنها ستمسك بيده يوماً وروحه فى نصف جسده وتلقنه أن الله ربه وأن محمداً رسوله ..وهل تخيلت يوماً أنه سينسى ! ..هل تخيلت عندما علًمها تلك الكلمات أنها ستلقنه بها يوما وهو مستلقى يرى من الملائكة ما لا نراه ويسمع من الكلمات ما لا نسمعه ..هل تخيلت يوما أنها ستدعى لأبيها الذى طالما دعا لها بالحياة والنجاح ستدعى هى له بأن يخفف عليه ربه سكرات الموت ويعجل بقضاءه حتى يرتاح من ذلك العذاب وأن ينهى تلك المرحلة التى يقف بها معلقاً بين الدنيا والآخره لا يعلم سوى الله فى أىٌ منهما سيبقى ..

هل سيستجيب الله لها مرة أخرى ويجعل كلامها نافذا إلى روح أبيها برغم أنهما فى مكانين لا يعلم أحدٌ كم يبعدا عن بعضهما ..هل إذا صرخت وهى ممسكةٌ ذلك الصندوق الخشبى الذى يفصلها عن أبيها ستسمع روحه آخر كلماتها ويتذكرها تحت التراب ..

لم تكن تشعر بأنه قد مات ...ليس كفراً بما قضاه الله ولكن إيماناً بما علمه لها أبيها بأن من يحيا ناظراً لنهايته دائما يذهب ويترك ما يحيا منه من سيرته الطيبة وأثره الطيب وأعماله ..ومن يعش فى تلك الدنيا ناسياً أو متناسياً بأنها خلقت لتكون دنيا وواهماً أن اليوم الذى يغيب سيأتى يقيناً يومٌ بعده هو فقط من يموت لا يتذكر أحدٌ له شيئا ...

لم تكن تشعر أنها ذاهبة لقضاء مراسم عزاء ..لم تكن حزينة .. كانت مؤمنة أنه هناك فى مكان ما ..يلقى خيراً على كل ما تركه فى قلوب من حوله .. كانت كل ما تشعر به فى كلمات ..أنها ذاهبة لزفاف روح أبيها .. وأن لا شئ يليق به فى زفافه إلا أن ترتدى ...فستاناً أبيض !

كتبت بواسطة

 هذه واحدة من مجموعة قصص قصيرة هادفة اذا اردت المزيد اضغط على قصص قصيرة





هل أعجبك الموضوع ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رسائل أحدث رسائل أقدم الصفحة الرئيسية

جميع الحقوق محفوظة لاصحابها كتب pdf ©2014 .