قصص قصيرة : مسيو محجوب

قصص قصيرة
قصص قصيرة : مسيو محجوب

قرأت في صغري عبارة لأحد الفلاسفة تقول: "إذا وجدت نفسك يوماً تائهاً في صحراء قاحلة لا تدري أين طريق النجاة أو أي إتجاه تسلك.. فاختر أيها شئت و سر فيه بثبات .. فإنك إن لم تبلغ النقطة التي تريدها ، فلعلك بلغت حقاً نقطة أفضل من تلك التي كنت فيها". غير أن بدو الصحراء الكبرى أضافوا إليها خبراتهم فقالوا ناصحين: "إذا ضللت طريقك في الصحراء يوماً، فانتظر لحظة الشروق أو الغروب، أيهما أقرب، ثم تفحص السماء حولك، و سر بثبات في اتجاه النقطة التي تتكاثف فيها السحب أكثر من غيرها، فهي ستقودك غالباً إلى واحة في الصحراء أو نبع ماء، أو على أقل تقدير ستجعلك أقرب إلى دروب البدو"..

لا أظن أن "عم محجوب" قد قرأ نصيحة الفيلسوف أو استمع لخبرة بدو الصحراء تلك، لكنه بدا خير مثال لصحة النظريتين..

فمنذ بضع سنوات ، حمل إلينا البواب مظروفاً مغلقاً بلا طوابع أو أختام، قال لنا أن رجلاً بالباب طلب منه أن يسلمه لوالداي
فإن أذنا له صعد و إن لم يفعلا مضى لا رآهم و لا رأوه، كان بالمظروف "رسالة" كتبت بخط منمق، يشرح صاحبها فيها أزمته الصحية التي تستلزم علاجاً لا يملك ثمنه، واعداً بتقديم كل ما يثبت صحة كلامه. ولغرابة الموقف.. أذنا له بالصعود، ليجدا نفسيهما أمام رجل في الخمسينيات من عمره، نحيل الجسد، ثابت الخطا، بسيط الثياب، ذو نظرة لا تجرح ولا تتطفل على البيت و أهله، عفيف اللسان و من قبل هذا عزيز النفس. لم يبد الرجل كسائل كسرته الحاجة و إن أثقلته، بل كأي إنسان لما ضاقت عليه دنياه بما رحبت ، مضى يتلمس السند و الدعم من الآخرين- و كلنا هذا الرجل و إن لم ندري-.

عرفنا يومها أنه عامل بسيط بمرتب زهيد، يسكن حياً فقيراً، خرج من الدنيا بابنته الوحيدة المعاقة منذ ولادتها. لم يصعب على والدي تبين صدق كلامه، و ثقل همه، فقدما ما قسم الله له من رزق عندنا، أخذه ممتناً شاكراً لله فضله و مضى، قبل أن يعود بعدها بأيام قليلة حاملاً "فواتير" ما اشتراه رغم أن أحداً لم يطالبه بذلك، و هو ما زاد من تقديرنا و احترامنا للرجل. سأله والديَ يومها إن كانت لا تزال له حاجة، فنفى شاكراً رغم ظروفه التي تشرح غير هذا، لكنه لم يغادر بيتنا حتى اتفقا معه أن يمر علينا مطلع كل شهر فنعينه بمساعدة مالية هي ما يسميها الحس الشعبي المصري "نواية تسند الزير"..إلى أن يفرجها الله عليه.

و هكذا مع أول الشهر و عقب صلاة الجمعة يأتينا "عم محجوب" فنستقبله كما الضيوف أو الأصدقاء، و نجلسه مجالسهم  ، و تدور بيننا الأحاديث الودية، و صدَق "عم محجوب" على ذلك فكان يدخل علينا في كل مرة كأي ضيف حاملاً "هدية"!! فقد لفتت تلك المكتبة التي تواجه الداخل إلى المنزل انتباه "عم محجوب" من الزيارة الأول، فسأل شقيقي عن من يقرأ تلك الكتب ؟ فرد عليه: كلنا. فأعاد سؤاله بشكل أكثر تحديداً : هل منكم من يقرأ في "الأدب".. فأجابه أن أكثرنا اهتماماً به هن شقيقاته البنات. في الزيارة التالية فهمنا سر سؤال عم محجوب، إذ جاء حاملاً بين يديه مجموعة من الروايات التي توزع مجاناً مع العدد الشهري لجريدة "القاهرة"!! نعم فأقصى إنفاق لعم محجوب على الثقافة هو ثمن الجريدة، و كتابها المجاني هو متعته الأدبية!! عدد الجريدة هذا و كتابها كانا هدية عم محجوب لنا كل مرة، و أحياناً ما كان يبدي وجهة نظره في مستوى الكتاب و مدى موافقته لما جاء فيه من عدمه.. و ينتظر كذلك أن يسمع رأينا فيه.

حب "عم محجوب" للأدب لم يكن الجانب الوحيد الذي كشفته لنا الأيام عنه، إذ سرعان ما كشفت لنا زياراته المتكررة عن جانب آخر أثار دهشتنا و إعجابنا.. و هو إعجاب كانت تخالطه الشفقة كثيراً. حكى لنا "عم محجوب" كيف نشأ يتيم الوالدين في بيت خاله -الذي كان رجلاً كثير العيال قليل المال- و كيف كان تلميذا مجتهداً مُحباً للعلم أمنيته أن يلتحق بكلية "الآداب" قسم " اللغة الفرنسية" ليصبح معلماً لها، و حكى عن حبه أيضاً للغة الإنجليزية رغم أنه لا يعرف حرفاً في اللغتين !! لكن ضيق حال خاله أخرجه من المدرسة مبكراً و طاف به في سوق العمل صغيراً حتى استقر به المقام في وظيفته الحالية. حكى كيف حزن يومها وشعر بالظلم و المعنى القاسي لليتم، و كيف غضب من خاله و من الحياة التي لا تتسع أمامه يوماً، حتى تزوج و رُزق بابنته الوحيدة المريضة التي استنفذت هي الأخرى آخر ما بقي لديه من أمل.

ثم ذات يوم و بينما يسير به العمر نحو الستين، قرر أن يُعيد للطفل المحروم "محجوب" حلمه المسروق بعدما أصبح هو صاحب القرار في حياته، قرر أن يمنح ما بقي من الحياة فيه فرصة لتحتضن الطفل الغاضب و تمسح عنه حزنه .. لتعطيه متسعاً في رحابها قبل أن يغادرها و تغادره!! فالطفل ما عاد يتيماً، وإن ظل الفقر قيداً يكبله كما الماضي ..فانضم "عم محجوب" لفصول محو الأمية و حصل على شهادتها، ثم التحق بالصف الأول الإعدادي و في كل زيارة نسأله عن أحوال الدراسة فيرد بثقة: تمام إن شاء الله هاخد الإعدادية و الثانوية وهادخل الكلية و أبقى مُدرس "فرنساوي"، فلا يسعنا إلا تشجيعه و كف ألسنتنا عن أي تساؤل  أو تعليق محبط.

لا أعرف عدد من سخروا من الرجل الأشيب الذي يجلس في "مجموعة التقوية" مع أطفال من سن أحفاده، لا أعرف كم شخصاً اسمعه تعليقاً من نوعية : جامعة إيه اللي عايز تدخلها؟!، هم اللي خدوا شهادات عملوا بيها إيه؟، أقصى إنجازاتك أن يزيد طابور العاطلين واحد، أو يا راجل إحضرلك درسين في الجامع ينفعوك في آخرتك بدل شغل العيال ده.....الخ، غير أني أكاد أُجزم أنه لم يكن بمنأىً عن أي من هذا ! كل هذا الكلام بدا بلا معنىً أمام فرحته الطاغية يوم حصل على الشهادة الإعدادية بمجموع يؤهله للالتحاق بالثانوي العام، ما يجعل المسافة أقرب بينه و بين حلمه.. هنأناه و قد ازددنا ثقة بقدراته و بكل المعاني النبيلة في حكايته. ثم فاجأنا "عم محجوب" بقرار التوقف عن الدراسة لعام كامل!! لماذا؟؟ فرد بأسىً: الفيزياء و الكيمياء !! إذ وقفت كلا المادتين كصخرة هائلة في الطريق بينه و بين بوابات الجامعة.. لذلك و بعد تفكيرقرر "عم محجوب" أنه لكي يتجاوز العقبة هذه  بدرجة النجاح فهو بحاجة لـ "دروس خصوصية"، و لأنه يجد صعوبة حقيقية في الاستيعاب خلال "مجموعة التقوية" فلا مفر إذن من درس منفرد مع مدرس محترف، و لكي يقبل مدرس التفرغ له وحده في ساعة الدرس فإن ذلك يرفع ثمن الدرس إلى مبلغ لا يملكه  و لا يُطيق دفعه، لهذا قرر التوقف لعامٍ واحد يدخر خلاله ما استطاع للدروس الخصوصية التي يحتاجها !

أحزننا توقف حُلم "الطفل محجوب" للمرة الثانية أو لعلها الثالثة، أحزننا أن يُصادف الإحباط ثانية هذا الطفل الذي تملك روح الشيخ فمضى بها نحو البداية غير عابئ بالجسد الذي يمضي بثبات في اتجاه النهاية!!.. لكن ثقة "عم محجوب" التي تبدت حين أعاد التأكيد أنه فقط توقف لعامٍ واحد يعود بعدها لاستكمال حلمه و يصبح "مسيو محجوب" أكدت لنا أن الطفل مازال يتمتع بشغفه و ما زال ينبض بالحياة يبحث عن طريقه فيها، فاطمأن قلبنا .

بعد تلك الزيارة تغيب عم محجوب لعدة أشهر بلا خبر، حتى حدثتنا أنفسنا بأن الرجل قد وافاه الأجل!! فنقول لها: من يدري لعل في غيابه خيراً. لكن أخيراً جاء عم محجوب.. ينطبق عليه عبارة "يقدم قدماً و يؤخر أخرى" بدا مرتبكاً لكنه أفضل حالاً، سألناه عن سر غيابه الطويل ففاجأنا ما سمعناه. فعم محجوب بات مشغولاً طوال الوقت بعد أن فتحها الله عليه من أوسع أبوابه كما قال ، أما كيف؟ فيبدو أن مشهد الرجل الأشيب الذي ينضم للصغار في دروسهم قد لفت انتباه بعض آباء التلاميذ ، و كما ارتحنا له و صدقناه، ارتاح إليه أيضاً بعض الأهالي، و عرفوا أن الرجل الخمسيني بارع في اللغة "الإنجليزية"! لم لا؟ فعشق عم محجوب للغات الأجنبية دفعته لإجادة الإنجليزية بمجرد أن تفككت شفرات حروفها أمامه، فسعى إليه بعض أولياء الأمور طالبين منه مساعدة أبناءهم في المذاكرة، فلم يتردد ، ثم سرعان ما زاد عدد طلابه، و تجاوز الأمر حدود المساعدة فأصبح "دروساً مدفوعة الأجر" خاصة بعد أن انضم إليهم تلاميذ من أبناء القادرين !! صدق أو لا تصدق.. هذا ما حدث!!!

صحيح أن الطريق الذي اختاره عم محجوب لم يصل به بعد إلى بوابات الجامعة، و صحيح أن الفيزياء و الكيمياء كانتا صخرة اعترضته و حولت مساره، و صحيح أيضاً أن عم محجوب مازال يناضل لتحقيق حلمه القديم و يصبح "مسيو محجوب"، غير أن الطريق الذي اختاره حين دنت شمس العمر من مغربها.. كان طريقاً حمله إلى واحة ظليلة في صحراء الفقر و هجيرها. . واحة أصغر من تلك التي سعى إليها .. لكنها بدت كافية لاستراحة محارب يحتاج ظلها و ماءها ليتخذ منها بداية ليوم جديد و كفاح طويل. بقي أن تعرف إذن أن الحاجة التي دفعت عم محجوب لطرق بابنا منذ البداية كانت "ثمن نظارة طبية"!! نعم.. عم محجوب رجل شديد ضعف البصر.. قوي البصيرة !! يرتدي نظارة "كعب كوباية" و روح شاب و شغف طفل و عزم محارب. 

لا أعرف كم من المعاني تحملها قصة هذا الرجل، لكنني كل يوم أزداد إيماناً أن أسوياء النفوس وإن كانوا فقراء منسيين أو ضعفاء يعيشون على هامش المجتمع، سيظلون ذائماً يقدمون للحياة خدمة عظيمة، إذ أنهم يحفظون توازن القيم فيها ، و يرجحون كفة الأخيار على الأشرار فيها. لهذا لم أستغرب حين قالت صديقتي الفنانة "فاطمة عمر " أن عم "أحمد" ماسح الأحذية رفض أن ترسمه "منحنياً" على رزقه- وكلنا منحن على رزقه-!، و أذن لها فقط أن ترسمه بينما يستند بارتياح إلى الحائط بعدما فرغ من عمله كما تُظهر الصورة المرفقة، فبعض الناس يأبى أن ينحني و لو في صورة!! لعله رأى في ذلك انكساراً يأباه.. فالانكسار كما الانتصار، و الأمل كما اليأس قرار أنت وحدك صاحبه. و عقبات الحياة و آلامها.. تملك فقط أن تؤجل حلمك، أن تعطل مسار أهدافك، أو أن تباعد المسافة بينك و بينها و تزرعها بالمشقة، لكنها أبداً لا تمنعك من تحقيقها. 
و بنفس الهدوء الذي دخل به حياتنا قبل سنوات.. غادرنا "عم محجوب" .. وشيئاً فشيئا انقطعت أخباره.. لا أعرف هل التحق بالمدرسة الثانوية هذا العام، أم مازال حلماً مؤجلاً، لكنني ثقة في الله أحسبه سيفعل، يوماً ما سيعاند الطفل الذي مازال يسكن روحه.. سيتعلق بيدي "مستر محجوب" جاذباً إياه بالحاح نحو حلمه الواقف منذ عقود خلف أسوار الجامعة في انتظاره.. و لن يهدأ الطفل أبداً حتى يصبح "مسيو محجوب" !!!  

بريشة فاطمة عمر

كتبت بواسطة
هبة العقباوي

 هذه واحدة من مجموعة قصص قصيرة هادفة اذا اردت المزيد اضغط على قصص قصيرة
 


هل أعجبك الموضوع ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رسائل أحدث رسائل أقدم الصفحة الرئيسية

جميع الحقوق محفوظة لاصحابها كتب pdf ©2014 .